كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



لقد وجد الذين يبيعون أسرار أمريكا وبريطانيا العسكرية لأعدائهم، لا لأنهم في حاجة إلى المال. ولكن لأن بهم شذوذاً جنسياً، ناشئاً من آثار الفوضى الجنسية السائدة في المجتمع.
وقبل سنوات وضع البوليس الأمريكي يده على عصابة ضخمة ذات فروع في مدن شتى. مؤلفة من المحامين والأطباء- أي من قمة الطبقة المثقفة- مهمتها مساعدة الأزواج والزوجات على الطلاق بإيجاد الزوج أو الزوجة في حالة تلبس بالزنا، وذلك لأن بعض الولايات لا تزال تشترط هذا الشرط لقبول توقيع الطلاق! ومن ثم يستطيع الطرف الكاره أن يرفع دعوى على شريكه بعد ضبطه عن طريق هذه العصابة متلبساً، وهي التي أوقعته في حبائلها!
كذلك من المعروف أن هناك مكاتب مهمتها البحث عن الزوجات الهاربات والبحث عن الأزواج الهاربين! وذلك في مجتمع لا يدري فيه الزوج إن كان سيعود فيجد زوجته في الدار أم يجدها قد طارت مع عشيق! ولا تدري الزوجة إن كان زوجها الذي خرج في الصباح سيعود إليها أم ستخطفه أخرى أجمل منها أو أشد جاذبية! مجتمع تعيش البيوت فيه في مثل هذا القلق الذي لا يدع عصباً يستريح!!!
وأخيراً يعلن رئيس الولايات المتحدة أن ستة من كل سبعة من شباب أمريكا لم يعودوا يصلحون للجندية بسبب الانحلال الخلقي الذي يعيشون فيه.
وقد كتبت إحدى المجلات الأمريكية منذ أكثر من ربع قرن تقول:
عوامل شيطانية ثلاثة يحيط ثالوثها بدنيانا اليوم. وهي جميعها في تسعير سعير لأهل الأرض، أولها: الأدب الفاحش الخليع الذي لا يفتأ يزداد في وقاحة ورواجه بعد الحرب العالمية (الأولى) بسرعة عجيبة. والثاني الأفلام السينمائية التي لا تذكي في الناس عواطف الحب الشهواني فحسب، بل تلقنهم دروساً عملية في بابه. والثالث انحطاط المستوى الخلقي في عامة النساء، الذي يظهر في ملابسهن، بل في عريهن، وفي إكثارهن من التدخين، واختلاطهن بالرجال بلا قيد ولا التزام.. هذه المفاسد الثلاث فينا إلى الزيادة والانتشار بتوالي الأيام. ولابد أن يكون مآلها زوال الحضارة والاجتماع النصرانيين وفناءهما آخر الأمر. فإن نحن لم نحد من طغيانها، فلا جرم أن يأتي تاريخنا مشابهاً لتاريخ الرومان، ومن تبعهم من سائر الأمم، الذين قد أوردهم هذا الاتباع للأهواء والشهوات موارد الهلكة والفناء، مع ما كانوا فيه من خمر ونساء، أو مشاغل رقص ولهو وغناء.
والذي حدث أن أمريكا لم تحد من طغيان هذه العوامل الثلاثة، بل استسلمت لها تماماً وهي تمضي في الطريق الذي سار فيه الرومان!
ويكتب صحفي آخر عن موجة انحراف الشباب في أمريكا وبريطانيا وفرنسا، ليهون من انحلال شبابنا! يقول:
انتشرت موجة الإجرام بين المراهقين والمراهقات من شباب أمريكا.
وأعلن حاكم ولاية نيويورك، أنه سوف يجعل علاج هذا الانحراف على رأس برنامج الإصلاح الذي يقوم به في الولاية:
وعمد الحاكم إلى انشاء المزارع والإصلاحيات التهذيبية والأندية الرياضية.. الخ ولكنه أعلن أن علاج الإدمان على المخدرات- التي انتشرت بصفة خاصة بين طلبة وطالبات الجامعات ومنها الحشيش والكوكايين!- لا يدخل في برنامجه، وأنه يترك أمره للسلطات الصحية!
وأما في انجلترا فقد كثرت في العامين الأخيرين جرائم الاعتداء على النساء وعلى الفتيات الصغيرات في طرق الريف. وفي معظم الحالات كان المعتدي أو المجرم غلاماً مراهقاً. وفي بعضها كان المجرم يعمد إلى خنق الفتاة أو الطفلة، وتركها جثة هامدة، حتى لا تفشي سره، أو تتعرف عليه، إذا عرضه عليها رجال البوليس.
ومنذ شهرين اثنين كان شيخ عجوز في طريقه إلى القرية، عندما أبصر على جانب الطريق- وتحت شجرة- غلاماً يضاجع فتاة.. واقترب الشيخ منهما، ووكز الغلام بعصاه وزجره ووبخه، وقال له: إن ما يفعله لا يجوز ارتكابه في الطريق العام! ونهض الفتى، وركل الشيخ بكل قوته في بطنه... ووقع الشيخ وهنا ركله الفتى في رأسه بحذائه... واستمر يركله بقسوة حتى تهشم الرأس! وكان الغلام في الخامسة عشرة، والفتاة في الثالثة عشرة من عمرها!
وقد قررت لجنة الأربعة عشر الأمريكية التي تعنى بمراقبة حالة البلاد الخلقية أن90 في المائة من الشعب الأمريكي مصابون بالأمراض السرية الفتاكة (وذلك قبل وجود المركبات الحديثة من مضادات الحيويات كالبنسلين والاستريبتومايسين!)
وكتب القاضي لندسي بمدينة دنفر أنه من كل حالتي زواج تعرض قضية طلاق!
وكتب الطبيب العالم العالمي ألكسيس كاريل في كتابه (الإنسان ذلك المجهول) بالرغم من أننا بسبيل القضاء على إسهال الأطفال والسل والدفتريا والحمى التيفودية. الخ فقد حلت محلها أمراض الفساد والانحلال. فهناك عدد كبير من أمراض الجهاز العصبي والقوى العقلية... ففي بعض ولايات أمريكا يزيد عدد المجانين الذين يوجدون في المصحات على عدد المرضى الموجودين في جميع المستشفيات الأخرى. وكالجنون، فإن الاضطرابات العصبية وضعف القوى العقلية آخذ في الازدياد. وهي أكثر العناصر نشاطاً في جلب التعاسة للأفراد، وتحطيم الأسر.. إن الفساد العقلي أكثر خطورة على الحضارة من الأمراض المعدية، التي قصر علماء الصحة والأطباء اهتمامهم عليها حتى الآن!
هذا طرف مما تتكلفه البشرية الضالة، في جاهليتها الحديثة، من جراء طاعتها للذين يتبعون الشهوات ولا يريدون أن يفيئوا إلى منهج الله للحياة.
المنهج الملحوظ فيه اليسر والتخفيف على الإنسان الضعيف؛ وصيانته من نزواته، وحمايته من شهواته، وهدايته إلى الطريق الآمن، والوصول به إلى التوبة والصلاح والطهارة:
{والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً}.
والفقرة الثانية في هذا الدرس، تتناول جانباً من العلاقات المالية في المجتمع المسلم، لتنظيم طرق التعامل في هذا الجانب؛ لضمان طهارة التعامل بين الأفراد عامة؛ ثم لتقرير حق النساء كالرجال في الملك والكسب- كل حسب نصيبه- وأخيراً لتنظيم التعامل في عقود الولاء التي كانت سارية في الجاهلية وفي القسم الأول من صدر الإسلام، لتصفية هذا النظام، وتخصيص الميراث بالأقارب؛ ومنع عقود الولاء الجديدة:
{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وأسالوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليماً ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيداً}..
إنها حلقة في سلسلة التربية، وحلقة في سلسلة التشريع.. والتربية والتشريع في المنهج الإسلامي متلازمان؛ أو متداخلان؛ أو متكاملان.. فالتشريع منظور فيه إلى التربية؛ كما هو منظور فيه إلى تنظيم شؤون الحياة الواقعية؛ والتوجيهات المصاحبة للتشريع منظور فيها إلى تربية الضمائر؛ كما أنه منظور فيها إلى حسن تنفيذ التشريع، وانبعاث التنفيذ عن شعور بجدية هذا التشريع؛ وتحقق المصلحة فيه. والتشريع والتوجيه المصاحب منظور فيهما- معاً- إلى ربط القلب بالله، وإشعاره بمصدر هذا المنهج المتكامل من التشريع والتوجيه.. وهذه هي خاصية المنهج الرباني للحياة البشرية.. هذا التكامل الذي يصلح الحياة الواقعية، ويصلح الضمير البشري في ذات الأوان..
وهنا في هذه الفقرة نجد النهي للذين آمنوا عن أكل أموالهم بينهم بالباطل- وبيان الوجه الحلال للربح في تداول الأموال- وهو التجارة- ونجد إلى جانبه تصوير أكل الأموال بالباطل بأنه قتل للأنفس؛ وهلكة وبوار. ونجد إلى جانبه كذلك التحذير من عذاب الآخرة، ومس النار!.. وفي الوقت ذاته نجد التيسير والوعد بالمغفرة والتكفير، والعون على الضعف والعفو عن التقصير.. كذلك نجد تربية النفوس على عدم التطلع إلى ما أنعم الله على البعض، والتوجه إلى الله- صاحب العطاء- وسؤال من بيده الفضل والعطاء.
وذلك التوجيه مصاحب لتقرير حق الرجال ونصيبهم فيما اكتسبوا، وحق النساء ونصيبهن فيما اكتسبن، وهذا وذلك مصحوب بأن الله كان بكل شيء عليماً.. كما أن بيان التصرف في عقود الولاء، والأمرء بالوفاء بها نجده مصحوباً بأن الله كان على كل شيء شهيداً.. وهي لمسات وجدانية مؤثرة مصاحبة للتشريع، وتوجيهات تربوية من صنع العليم بالإنسان، وتكوينه النفسي، ومسالك نفسه ودروبها الكثيرة.
{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً}.
النداء للذين آمنوا، والنهي لهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل.
{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}.
مما يوحي بأنها عملية تطهير لبقايا رواسب الحياة الجاهلية في المجتمع الإسلامي؛ واستجاشة ضمائر المسلمين بهذا النداء: {يا أيها الذين آمنوا}.. واستحياء مقتضيات الإيمان. مقتضيات هذه الصفة التي يناديهم الله بها، لينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل.
وأكل الأموال بالباطل يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله، أو نهى عنها، ومنها الغش والرشوة والقمار واحتكار الضروريات لإغلائها، وجميع أنواع البيوع المحرمة- والربا في مقدمتها- ولا نستطيع أن نجزم إن كان هذا النص قد نزل بعد تحريم الربا أو قبله؛ فإن كان قد نزل قبله، فقد كان تمهيداً للنهي عنه. فالربا أشد الوسائل أكلاً للأموال بالباطل. وإن كان قد نزل بعده، فهو يشمله فيما يشمل من ألوان أكل أموال الناس بالباطل.
واستثنى العمليات التجارية التي تتم عن تراض بين البائع والشاري:
{إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}..
وهو استثناء منقطع.. تأويله: ولكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم فليست داخلة في النص السابق.. ولكن مجيئها هكذا في السياق القرآني، يوحي بنوع من الملابسة بينها وبين صور التعامل الأخرى، التي توصف بأنها أكل لأموال الناس بالباطل.. وندرك هذه الملابسة إذا استصحبنا ما ورد في آيات النهي عن الربا- في سورة البقرة- من قول المرابين في وجه تحريم الربا: {إنما البيع مثل الربا} ورد الله عليهم في الآية نفسها: {وأحل الله البيع وحرم الربا}. فقد كان المرابون يغالطون؛ وهم يدافعون عن نظامهم الاقتصادي الملعون. فيقولون: إن البيع- وهو التجارة- تنشأ عنها زيادة في الأموال وربح. فهو- من ثم- مثل الربا. فلا معنى لإحلال البيع وتحريم الربا!
والفرق بعيد بين طبيعة العمليات التجارية والعمليات الربوية أولاً، وبين الخدمات التي تؤديها التجارة للصناعة وللجماهير؛ والبلاء الذي يصبه الربا على التجارة وعلى الجماهير.
فالتجارة وسيط نافع بين الصناعة والمستهلك؛ تقوم بترويج البضاعة وتسويقها؛ ومن ثم تحسينها وتيسير الحصول عليها معاً.
وهي خدمة للطرفين، وانتفاع عن طريق هذه الخدمة. انتفاع يعتمد كذلك على المهارة والجهد؛ ويتعرض في الوقت ذاته للربح والخسارة..
والربا على الضد من هذا كله. يثقل الصناعة بالفوائد الربوية التي تضاف إلى أصل التكاليف ويثقل التجارة والمستهلك بأداء هذه الفوائد التي يفرضها على الصناعة. وهو في الوقت ذاته- كما تجلى ذلك في النظام الرأسمالي عندما بلغ أوجه- يوجه الصناعة والاستثمار كله وجهة لا مراعاة فيها لصالح الصناعة ولا لصالح الجماهير المستهلكة؛ وإنما الهدف الأول فيها زيادة الربح للوفاء بفوائد القروض الصناعية. ولو استهلكت الجماهير مواد الترف ولم تجد الضروريات! ولو كان الاستثمار في أحط المشروعات المثيرة للغرائز، المحطمة للكيان الإنساني.. وفوق كل شيء.. هذا الربح الدائم لرأس المال؛ وعدم مشاركته في نوبات الخسارة- كالتجارة- وقلة اعتماده على الجهد البشري، الذي يبذل حقيقة في التجارة.. إلى آخر قائمة الاتهام السوداء التي تحيط بعنق النظام الربوي؛ وتقتضي الحكم عليه بالإعدام؛ كما حكم عليه الإسلام!
فهذه الملابسة بين الربا والتجارة؛ هي التي لعلها جعلت هذا الاستدراك- {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} يجيء عقب النهي عن أكل الأموال بالباطل. وإن كان استثناء منقطعاً كما يقول النحويون!
{ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً}..
تعقيب يجيء بعد النهي عن أكل الأموال بالباطل؛ فيوحي بالآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة الجماعة؛ إنها عملية قتل.. يريد الله أن يرحم الذين آمنوا منها، حين ينهاهم عنها!
وإنها لكذلك. فما تروج وسائل أكل الأموال بالباطل في جماعة: بالربا. والغش. والقمار. والاحتكار. والتدليس. والاختلاس. والاحتيال. والرشوة. والسرقة. وبيع ما ليس يباع: كالعرض. والذمة. والضمير. والخلق. والدين!- مما تعج به الجاهليات القديمة والحديثة سواء- ما تروج هذه الوسائل في جماعة، إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها، وتتردى في هاوية الدمار!
والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة، المردية للنفوس؛ وهذا طرف من إرادة التخفيف عنهم؛ ومن تدارك ضعفهم الإنساني، الذي يرديهم حين يتخلون عن توجيه الله، إلى توجيه الذين يريدون لهم أن يتبعوا الشهوات!
ويلي ذلك التهديد بعذاب الآخرة، تهديد الذين يأكلون الأموال بينهم بالباطل، معتدين ظالمين. تهديدهم بعذاب الآخرة؛ بعد تحذيرهم من مقتلة الحياة الدنيا ودمارها. الآكل فيهم والمأكول؛ فالجماعة كلها متضامنة في التبعة؛ ومتى تركت الأوضاع المعتدية الظالمة، التي تؤكل فيها الأموال بالباطل تروج فيها فقد حقت عليها كلمة الله في الدنيا والآخرة:
{ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً}.
وهكذا يأخذ المنهج الإسلامي على النفس أقطارها- في الدنيا والآخرة- وهو يشرع لها ويوجهها؛ ويقيم من النفس حارساً حذراً يقظاً على تلبية التوجيه، وتنفيذ التشريع؛ ويقيم من الجماعة بعضها على بعض رقيباً لأنها كلها مسؤولة؛ وكلها نصيبها المقتلة والدمار في الدنيا، وكلها تحاسب في الآخرة على إهمالها وترك الأوضاع الباطلة تعيش فيها.